Related Posts with Thumbnails
البدايـــلة
البدايـــلة
كتب/ البدايله الأحد، 18 أكتوبر 2009

بقلم: د‏.‏ طه عبد العليم
طوال ما يزيد علي أربعة عقود‏,‏ ومهما تباينت رؤانا الفكرية والسياسية‏,‏ لم ينقطع اتصالنا‏,‏ وتعمقت صداقتنا‏,‏ حتي لقائي الأخير معه بصحبة صديق عمرنا المشترك الدكتور عبد المنعم سعيد في المستشفي‏.‏ وبينما كان حديثنا إليه خلال اللقاء الأخير‏-‏ شأن محادثتنا الهاتفية معه وهو في باريس‏-‏ عن أملنا في شفائه‏,‏ جاء ردنا علي كلماته عن‏'‏ رحلة الوداع‏'‏ الأخيرة للقاهرة هو اتصالاتنا للتعجيل بإجراءات سفره ومرافقيه إلي أمريكا‏,‏ أملا في فرصة لاحت للعلاج وإن بدت طفيفة‏;‏ بعد عودته من فرنسا باستنفاد فرص أفضل علاج له في الخارج‏.‏وفي كلية الاقتصاد والعلوم السياسية كان‏'‏ محمد الإنسان‏'‏ لقب الصديق محمد السيد سعيد بيننا‏..‏ نحن أصحابه من خريجي عام‏1972,‏ الدفعة العاشرة أو حاملي اللواء العاشر كما أطلقت عليها إحدي مجلات الحائط‏,‏ أهم المنابر الصحفية بالجامعات في مطلع سبعينيات القرن الماضي‏.‏ ولا أتذكر من الذي ألصق صفة‏'‏ الإنسان‏'‏ النبيلة باسمه‏,‏ لكنه استحقها بغير جدال‏,‏ لأنه إلي جانب كرمه المعهود وحسه الإنساني العميق كان بين قلة ممن قابلت في حياتي المديدة ينطبق عليه قول ماركس الشهير‏:'‏ كل ما هو إنساني‏..‏ ليس غريبا عني‏'.‏ فقد كانت ماركسيته إنسانية النزعة‏,‏ شأن الماركسية المبكرة قبل أن يلحق بها التشوه‏,‏ حتي ذاع القول بأن ماركس لو رأي الماركسيين اللاحقين لصاح‏:'‏ لست ماركسيا‏'!!‏وقد شاءت الأقدار أن التحقت مع صديقي‏'‏ محمد الإنسان‏'‏ في ذات القسم بالكلية‏,‏ وخدمنا معا جنديين بالقوات المسلحة في كتيبتين بذات اللواء في العين السخنة‏,‏ وعملنا معا بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية في وحدة دراساته الاقتصادية‏,‏ وتواصلنا خلال دراساتنا العليا في روسيا وأمريكا‏,‏ وعدنا لنعمل معا تحت قيادة أستاذنا وصديقنا السيد يسين‏,‏ ثم نائبين لصديقنا عبد المنعم سعيد‏,‏ حتي كان الهاتف وسيلة اتصالي به خلال أشهر علاجه الأخيرة في فرنسا‏,‏ لأطمئن منه علي صحته‏,‏ وأتابع وصول تحويلات الأهرام إليه لتغطية جميع تكاليف إقامته للعلاج‏.‏وبعد التخرج إلي كتيبتين بذات اللواء من المشاة الميكانيكية في منطقة العين السخنة انتقلت وصديقي من مركز تدريب المعادي‏,‏ واستمرت خدمتنا معا ثلاث سنوات قبل وبعد حرب أكتوبر المجيدة‏,‏ كثيرا ما كان يزورني في موقعي علي طريق ذهابه وإيابه من الإجازات‏.‏ ورغم نجاته من استشهاد محقق‏,‏ حين تطوع مع مجموعة جند وضباط بواسل في عملية شبه انتحارية‏,‏ وقع‏'‏ محمد الإنسان‏'‏ في أسر العدو الاسرائيلي الذي أخفق في كسر إرادته‏.‏ فقد خرج صديقي من الحرب والأسر مفعما بالوطنية المصرية التي لم تنتقص منها أمميته‏,‏ واستمر محاربا صلبا للعنصرية الصهيونية برغم دفاعه الشجاع اللاحق عن السلام العادل‏.‏ولأنني كنت ناصريا طوال سني الجامعة‏,‏ فقد جاء اشتراكي مع صديقي الماركسي في حركة التضامن مع الثورة الفلسطينية التي تصاعدت بعد عام‏1970,‏ ثم في الحركة الطلابية الوطنية الديمقراطية حتي عام‏1972,‏ من مواقع فكرية وسياسية مستقلة‏,‏ وإن ساهم‏'‏ محمد الإنسان‏'‏ في اقترابي من اليسار الوطني‏.‏وإلي مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام انتقلنا معا‏-‏ من عملي بالتجارة الخارجية ومن عمله بوزارة الثقافة بعد انتهاء خدمتنا العسكريةـ للعمل باحثين لبعض الوقت في الاقتصاد السياسي بترشيح أستاذنا الدكتور عمرو محيي الدين‏,‏ حتي قرر أستاذنا السيد يسين تعييننا بالمركز‏.‏ وفي وحدة الدراسات الاقتصادية وقبل سفرنا للدراسات العليا تعلمت من صديقي ومعه أهم ما تعلمت وهو الدأب في البحث‏.‏ ورغم عشقي للمعرفة شأن صديقي‏,‏ و برغم كثرة ما قرأت طيلة حياتي‏-‏ وخاصة خلال أكثر من ثماني سنوات في الإعداد لبرنامجي‏'‏ دائرة الحوار‏'‏ والأهم في السنوات الخمس اللاحقة لعملي رئيسا للهيئة العامة للاستعلامات‏-‏ استمر صديقي الأوسع ثقافة مني ومن جميع أقرانه بفضل نزعته التي لاتباري للثقافة الموسوعية‏.‏وقد كانت النزعة العلمية الصارمة والنزاهة الفكرية القويمة والعقلية النقدية الموضوعية وراء تفرد صديقي‏,‏ الذي جعله ـ كما وصفه بحق حوار جاد معه ـ‏'‏ أكثر اليساريين ليبرالية‏,‏ وأكثر الليبراليين يسارية‏'.‏ وقد استمر الاحترام المتبادل بيننا‏,‏ ولم تتزعزع ثقتنا المتبادلة بأن كلا منا‏-‏ مهما تكن اجتهاداته‏-‏ لا تدفعه سوي منظومة قيم تستهدف التقدم الشامل لمصر‏,‏ فكان ضيفا معي في عدد من حلقات دائرة الحوار‏,‏ وقدم دون تردد ما طلبته منه من عون علمي خلال عملي بالاستعلامات‏,‏ ثم عرض علي أن أعمل معه في أي موقع أريد بجريدة البديل التي أسسها قبل أن يستقيل من رئاسة تحريرها‏;‏ فاعتذرت واحترم اعتذاري‏وبقي الاحترام متبادلا واستمرت الصداقة موصولة‏!‏ وقد أشدد هنا علي أن يقيني كان ولا يزال أن البحث العلمي الاجتماعي في مصر قد خسر جهود عالم لحساب الحركة السياسية والحقوقية‏;‏ لكنها اختيارات كل امريء في الحياة بتكلفتها وعائدها‏!‏ وقد كان صديقي ابن جيل قرر أن يبقي‏'‏ جسرا لا يتحطم‏',‏ وأن يرفض أن يكون‏'‏ وقتا ضائعا بين الوقتين‏'.‏ وهكذا كان مع جيله جسرا للعبور من هزيمة يونيو إلي نصر أكتوبر‏,‏ وكان بدفاعه عن‏'‏ حقوق الإنسان‏'‏ متعجلا لأوان انتقال مصر مع العالم بأسره إلي عصر تحترم فيه جميع الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للإنسان‏!‏ وقد جاء كفاحه من أجل حقوق الإنسان كما رأيته تعزيزا لنزعته الإنسانية وتجسيدا لأهم معاني صحبته‏,‏ فقد علمتني الحياة أن الإنسان لا يقاس بأفكاره المعلنة وشعاراته الصاخبة وإنما بقيمته الإنسانية‏.‏ وهنا بالذات يكمن الأساس الراسخ للصداقة التي جمعتنا حيث تتباين الأفكار‏,‏ وقد تتباعد وتتصادم‏,‏ وتبقي الصفات الأخلاقية أهم ما يجمع البشر‏!‏ وليس هذا بجديد‏فقد كان إبداع المصري القديم للأخلاق قبل أكثر من خمسة آلاف عام أساس كل اقتراب بين‏'‏ الإنسان وأخيه الإنسان‏'‏ بدءا من الصداقة‏,‏ التي كتب عنها صديقنا عبد المنعم سعيد رائعته‏'‏ صديقي محمد السيد سعيد‏',‏ وحتي بناء أعرق أمم الأرض قاطبة علي أرض المحروسة‏!‏وفي أحاديثنا الأخيرة عبرت والصديق عبد المنعم سعيد عن افتقادنا الحقيقي لجهده الذي لا بديل له في تطوير الأهرام‏,‏ حيث تدفقت أفكاره المتألقة دوما عن تنفيذ مشروعات لاستعادة وارتقاء الدور الثقافي التنويري للأهرام‏,‏ وهو ما عاهدناه علي إنجازه‏,‏ وبدأت أولي خطاه‏.‏ وفي وداع صديقي‏'‏ محمد الإنسان‏'‏ تدفق دمعي العزيز‏..‏ غزيرا يبكي عزيزا‏..‏ فور سمعت خبر وفاته علي الهاتف‏,‏ وبجوار مسجد العباسي في انتظار جثمانه ببورسعيد مسقط رأسه للصلاة عليه‏,‏ ومع خطي جنازته الشعبية والرسمية البسيطة الوقورة‏,‏ وإبان دفنه مع نشيج شقيقه السيد سعيد المخرج السينمائي المبدع ينتحبه أخا وإبنا‏,‏ حتي كان أن تلقيت وصديقنا عبد المنعم سعيد العزاء فيه مع ابنه مروان وزوجته نور الهدي وأفراد أسرته وتلاميذه وأصدقائه ومحبيه‏,‏ وهو العزاء الذي جمع شتي ألوان الطيف الفكري ووحد عدة أجيال وشهد رموز شتي الأحزاب وجمع كل من تعلم منه وعلمه‏.‏وكان وداع القاهرة الأخير للصديق‏'‏ محمد الإنسان‏'‏ بمسجد عمر مكرم‏-‏ الزعيم العظيم لثورات المصريين ضد ظلم المماليك وضد حملة الفرنسيين‏,‏ والذي قاد تنصيب الشعب لمحمد علي واليا علي مصر ليعيد بناءها في عصر نهضتها الحديثة‏-‏ رمزا يليق بوداع‏:‏ صاحب مشروع متفرد لنهضة مصر ومؤمن بتقدمها الشامل المأمول والمحتوم‏.‏

0 التعليقات

choose your language

ضع ايميلك للحصول على كل جديد المدونة

ضع ايميلك هنا ليصلك كل جديد المدونة:

Delivered by FeedBurner

حكمة اليوم

الاعلى قراءة

حمل أهم البرامج لجهازك