Related Posts with Thumbnails
البدايـــلة
البدايـــلة
كتب/ البدايله الأحد، 18 أكتوبر 2009

بقلم :هاني درويش
مات والدي منذ أشهر دون صخب. حتى أنا المبلي بمقارعة ظله الرومانتيكي لم أقدر على الكتابة عنه. إحتشدت بكافة تفاصيل موته الأسطورية ليوم كتابة إخرى. لكن حين مات محمد السيد سعيد منذ أيام حلمت بأبي دون لبس، حلمت بأيام الطفولة البعيدة في حي المطرية. هكذا هم الآباء يستدعون بعضهم البعض في اللاوعي وضد رغبة الزمان والمكان، أي المنطق المتماسك للأشياء. فهل من مناص من الكتابة عنهما.محمد السيد سعيد هو رئيس تحرير «البديل»، جريدتي المتوقفة منذ أشهر بفعل الغباء الذاتي والرومانتيكية القحة وبعض من فساد الملتحقين أخيرا بصفوف البرجوازية الصغيرة وقد تقمصوا أرواح رأسماليين. في مقالي السابق عن البديل لم أجد هدفا أسهل من محمد السيد سعيد رئيس تحريرها، المريض بفلسفة نقائه كي أنابذه بالمصير المحتوم لأحد أهم أحلامه: تأسيس يومية يسارية مصرية. وفي هذا المضمار الوعر، في هذا الحلم الرومانتيكي الذي تبدد منذ أيام بإنتهاء فترة السماح بإعادة إصدار الجريدة، كان شخص محمد السيد سعيد يحتاج إلى بورتريه جانبي، كاعظم ما كانت تمثله خبرة عامين من الأحلام بين مثقفي اليسار. فقد تحمل رئيس التحرير المتوفى منذ أيام وحده تناقضات كل الطرق المؤدية إلى مفترق طرق يساري بإمتياز، وكان وحده علامة نقاء لاخلافية بين كل المشتركين في النقاش حول جملة: «ما أسباب فشل اليسار التاريخية».محمد السيد سعيد يحمل في طياته الفكرية والإنسانية معظم تلك الصفات النبيلة التي تمناها الكل في الكل. كان اليساريون بتنويعاتهم المتباينة المواقف والخنادق النظرية يجمعون على ما يمثله محمد السيد سعيد من معادلة صعبة: ليبرالية لاشك فيها، تحلل من الخندق العقائدي لليسار الستاليني لصالح صبغة إنسانية أوسع، ربط مدهش بين النظرية والسلوك الشخصي، وأخيرا ثقافة موسوعية لاتخجل من تحويل كل رصيد الإبداع البشري لقيمة بسيطة تتمثل في نصرة المستضعفين. حتى علاقته الوظيفية بالدولة عبر مؤسسة الأهرام كانت نموذجا لقدرة الموهبة اليسارية الدؤوبة على اقتناص إعتراف من ألد الأعداء، إعتراف دشنه قبل سنوات بموقف اسطوري حين وقف مصدقا نظرية غرامشي حول المثقف العضوي لينتحر بين يدي الرئيس وهو يقدم تصوره عن ضرورة التحول الديموقراطي. كان لقاء المثقفين بالرئيس غالبا ما ينتهي بطلبات من نوعية بناء مطار في محافظة أو تربيتة من الرئيس على كتف فلان، او هتاف من بعض المنافقين أو سؤال لصحافي من مؤسسة حكومية جرى إعداده مسبقا. مشهد مسرحي عادي لرئيس لايمل إكسسوار جمع مقتنياته من طوائف شعبه الحبيب المهاود. خرج محمد السيد سعيد عن النص الكاريكاتيري بكلام جاد مرتب عن ضرورة التحول الديومقراطي، خطبة متهدجة الصوت إنتهت بثلاث خطوات وهو يحمل أوراقا لمشروعه السياسي للرئيس، رد عليه الرئيس المدهوش بكلمة «خلي ورقك في جيبك».من يومها إنتهت علاقته بالتدرج الرسمي والتطور الطبيعي في حضانة مفكري النظام التي سمحت بتناقضات اليسار واليمين الليبرالي. وبدلا من تبوّئه بدرجته الوظيفية وأبحاثه العلمية مكانة متميزة في مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية تم نفيه إلى مكتب الأهرام في نيويورك. من هناك أكمل تمرده بالتوقيع على بيان ضد الرئيس. تخيلوا في بلد الفراعنة والأهرام يعلن «مدير مكتب مؤسسة الدولة للصحافة» عن معارضته للإله!في أحد مشاهدنا الشخصية القليلة ت وكان وقتها رئيس تحرير لجريدة البديل ـ دخل محمد غرفة الديسك المركزي الجديد للجريدة والذي كنت أحد أعضائه. كان يعتذر لنا عن عدم قدرة الجريدة على دفع رواتب توازي مافي سوق الصحافة. قال إنه بعد 25 سنة في الأهرام ما زال يقبض 2000 جنيه كراتب شهري، هو الحاصل على الدكتوراه والمفكر والناشط الحقوقي ونائب رئيس مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية. لم يكن يعرف أن سوق الصحافة الآن يوجد به صحافيو مصادر يحصلون على مايحصل عليه. بل إنه لم يكن يعرف ـ أو كان يعرف دون أن يربط منطق العلاقات بخيوط الفساد ـ أن نائبه يحصل على خمسة آلاف جنيه دون أن يضع قلما في الجريدة!ذكرني ذلك بالطبع بالسيد الدسوقي بدر درويش الذي قبل نحو عشر سنوات من المشهد الأول، كان قد سألني عن سعر حذائي الجديد (كلاركس). وعندما أجبته بسعره الذي يوازي أجره الشهري سألني متهكما إن كنت أرتديه في قدمي أم أحمله على رأسي! في هذا كان أبي يتفهم فارق الجيل والطموحات والثقافة بل كان لايجد غضاضة في أن يرتدي إبنه حذاء بـ400 جنيه فيما هو يوفر ثمن الأتوبيس بالمشي لنحو ساعة بين مباني القاهرة العتيقة. نفس الخجل المشبع بعدم مسايرة الحياة الواقعية هو ما دفع محمد السيد سعيد للجري حين حاصرته أسئلتنا المطالبة بعدالة أسعارنا كي تتكيف لا فقط مع السوق بل مع نائليه الجشعين الذين لا يستيقظون مثله باكرا.كراهيتي لضعف أبي المبطن بالنقاء كانت هي نفسها الكراهية لمحمد السيد سعيد. فحين حاصرته بأسئلتي عن رفضه السفر لباريس لإستكمال علاجه كان رده: أولا أنا أثق في أطبائنا الوطنيين واللي حيعملوه هنا حيعملوه في باريس، وبعدين أنا حاروح باريس ياهاني... أنت متخيل الموضوع إزاي، أنا مينفعش أبقى لوحدي ...حصرف منين على إقامة اللي معايا... أنا معيييش... وزيّي زي أي حد في مصر».كان أبي في غيبوباته المتكررة ومع تدهور حالته الصحية يصحو ليلا في عنابر مستشفى صيدناوي للتأمين الصحي ليخطب في المرضى والممرضين. كان يحدثهم عن حقوقهم المهدورة فيما بوله ينسل من قسطرة في ممرات المستشفى. يحدثهم والممرضون يمرون من حوله بسيجارات البانجو المشتعلة بينما يتعالى صوت المرضى المتألمين، كان يحكي عن السد العالي وحائط الصواريخ والإنفتاح، كانت الغيبوبة تأكله، حتى إذا سقط في ممر المستشفى يحملونه وفي أعينهم عتاب صباحي لأبنائه الذين تركوه يخرّف في كتب التاريخ المنسية.اعتقل ابي مرتين، الأولى في نهاية الستينيات حيث عذب رغم إنتمائه لمنظمة الشباب، الثانية نهاية الثمانينيات إبان اعتصام عمال السكك الحديد. جرى إصطياده من على سلالم محطة مترو أنفاق رمسيس. وحين قاوم مقاومة بسيطة نالته لكمة في أعز مايملك، نظارته الزجاجية المقعرة التي لايري دونها شيئا. في معتقل أبي زعبل لم يمنعه ضعف نظره من إكتشاف إنتهازية مثقف كبير بحجم إبراهيم فتحي. كان الأخير المترجم والناقد والمثقف الماركسي الأصيل يسرق ليلا من زملائه السجائر. لم يفهم أبي يوما العلاقة بين المثقف والسرقة فيما كان يؤسطر وهو يحكي عن نفس «القبضة» نقاء العمال الذين شاركوه الزنزانة. هل كان غريبا اذا أن لايفهم مناضل الأتوبيسات والحواري والأزقة إبنا يحدثه عن وهم التحرير الناصري للريف وهو النازح بالفطرة إلى قاهرة المعز أواسط الستينيات موظفا متمرغا في تراب ميري الحكومة؟ هل كان صعبا على نسخة النقاء الفكري الأبوي إستيعاب أن يكون سكرتير تحرير جريدته ناقدا ثقافيا متحررا من النزعة الأيدولوجية وهو يحكي عن أسطورة «ريا وسكينة»؟بين أبي الميت حبا في تراب البلد ورئيس تحريري الميت خزيا من أوهام دولة لم توفر له العلاج كثيرٌ من التقاطعات. لقد عذب محمد السيد سعيد في سجن ابو زعبل إثر دفاعه عن عمال الحديد والصلب عام 1988، ولم تشفع له لا مكانة الأهرام ولا كارنيه نقابة الصحافيين لدى جلاديه. جلس نقيب الصحافيين يومها وللصدفة الآن- مكرم محمد أحمد في ساحة المعتقل معتصما للإفراج عن محمدالسيد سعيد. بعدها أدرك الأخير أن لا الدولة التي تمرغ في حماها الأهرامي ستحميه من «أعراض نقاء المثقف» ولا اليسار المعتصم بخيلاء «الفئة الناجية» سيقدم بديلا. إختار محمد السيد سعيد أن يكون بديلا وحيدا، بديلا عن أنصاف الخيارات، بديلا عن كل التموجات الإنتهازية لليسار المتاجر في أرصدة بورصة الدولة، بديلا حتى عن أنصاف المواقف حين يعز الموقف. فقبل سبع سنوات ظهر عملاقا في تحليله لبنية التعليم المصري وأزمته في ندوة عقدها مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان- رغم تواجد»اساطين الحرية» من أمثال «الشهيد الحي» نصر حامد أبو زيد، وقائد حركة 9 مارس لإستقلال الجامعة د.محمد أبو الغار، تحدث «المثقف الكبير» يومها عن كيف إستبدلت دولة يوليو «ديمقراطية التعليم الجامعي» ببغاوات «تعليم الدول القومية القوية». كان ساطعا وعنيفا وجذريا فاقتنص اعجابي في غير ملاعب تخصصه، أما حين يحين الكلام عن الديموقراطية والتعددية فحدث ولا حرج عن إسهامه.في إحدى جلسات الصبر المضنية في عز مرضه إستدعاني. قال لي إن مقالتي المكثفة في الصفحة الأخيرة والتي تكشف»عن مثقف كبير» ـ على حدقوله لـ الأولى بها صفحة الرأي الضعيفة. ناقشني يومها عن موقفي من حزب الله في احتلاله الأخير لشوارع بيروت. كانت الصفحة تحتوي مقاله اليومي، لذا لم يكن غريبا على ديموقراطيته أن يتناقش مع مشرف الصفحة الذي إختلف مع موقفه من حزب الله، تناقشنا يومها مطولا عن لبنان، كان من النادر أن اجد في تاريخي الصحافي رئيسا للتحرير يقبل الخلاف.عندما فشل أبي بتلميحاته الهادئة في تنبيهنا أنا وأخي عن أضرار التدخين، علق لأبنائه الشباب ورقة على الثلاجة مفادها: إن كان من حقك التدخين فإن من حقي إستنشاق هواء نقي. هذا العامل الذي لم يسمع يوما لوشاية أبناء عمومتي عن ضرورة إحترام الصغير للكبير أن تأخذ من حسه الأبوي موقع الوصاية يذكرني بمحمد السيد سعيد. أحلم بأبي وبمحمد السيد سعيد وأنهش سيرتهما كآخر الأنبياء الآباء... نحن القتلة نكره ضعف الضحايا ونتمرد على ضعفنا تجاههم.

0 التعليقات

choose your language

ضع ايميلك للحصول على كل جديد المدونة

ضع ايميلك هنا ليصلك كل جديد المدونة:

Delivered by FeedBurner

حكمة اليوم

الاعلى قراءة

حمل أهم البرامج لجهازك