موسكو .. تلك المدينة التى كانت طيلة عشرات السنين مثالا للاستقرار والأمان والسكينة.. يقصدها الكثيرون طلبا للراحة والنقاهة والعلاج ، ويلجأ إليها الشرفاء من المغضوب عليهم فى أوطانهم مفكرين وأدباء وعلماء وفنانين وساسة رغبة فى الحماية والطمأنينة ، ويشاهدها مواطنو غرب أوربا متعجبين من سحرها ووداعة أطفالها ومن عشق أهلها للثقافة والقراءة حتى فى المركبات العامة ، ولا يغادرها – كثيرون ممن تعلموا فيها – حتى إلى أوطانهم لانخفاض تكاليف المعيشة بها وتوفر فرص العمل والتعليم والإقامة والعمل وراحة البال ..
موسكو مدينة الفن والجمال والرياضة والأدب والسياسة.. مدينة جوركى وديستويفسكى .. وماياكوفسكى وخاتشادوريان.. وإيفتوشنكو وفرقة البولشوى.. أصبحت اليوم مدينة أخرى .. ضاع منها الأمان وتوحشت شوارعها وانتشرت عصابات الإجرام المنظم بها ، وتفاقمت فيها البطالة ومعدلات التشرد والضياع ، وضاق بها سكانها وربما ضاقت بهم .
تضاءلت بها فرص التعليم والعمل .. وتفجرت فى جنباتها نزعات التعصب القومية البغيضة تجاه غير الروس .. حتى لو كانوا من مجتمعات مجاورة أو تضمهم حدود مشتركة .
بات أطفالها فى هلع وخوف من البقاء فى طرقاتها فرادى دون ذويهم.. وتفاقمت حالات الاختفاء فى أحيائها المختلفة لأعداد بلغت ثلاثة آلاف حالة فى العام، وتجاوز التردد على مكاتب المفقودين ثلاثمائة فرد يوميا * ، وعلى ما يبدو أنها – أى موسكو- لم تؤثر الانفراد بهذه الظاهرة بين المدن الروسية فنقلت عدواها خارج حدودها لتناطح مدنا ذات سمعة وتاريخ فى انعدام الأمن (حيث بلغ عدد المفقودين فى روسيا سبعين ألف شخص فى العام بينهم إثنتا عشر ألف طفل* ) .. وهو رقم مخيف بكل المعايير لا يفسره سوى افتراض وحيد هو انتشار عمليات خطف الأطفال التى تمولها عصابات تجارة الأعضاء البشرية.
- وبرغم منطقية بعض التفسيرات التى تداولتها المناقشات البرلمانية الروسية إلا أن التسيب الشديد فى جهاز الشرطة الروسية لا يفسر بمفرده ضخامة الأعداد الهائلة للمفقودين من الأطفال .. لكن إضافة عاملى البطالة والجريمة المنظمة يمكن أن يعطيا مع تسيب الشرطة سببا منطقيا لبلوغ أعداد المفقودين تلك الأرقام الكبيرة.. وهو ما يلزم الإنتباه إليه ومواجهته.
- من جانب آخر فعندما تطول البطالة عامة الشعب يمكن توقع زيادة معدلات الجريمة بل وتوقع أرقامها .. لكن عندما تقتطع البطالة أعدادا كبيرة من أجهزة الأمن ( شرطة، وغيرها ) يكون توقع أرقام المختفين نوعا من الجهل أو ضربا من الجنون.
- ومن جانب ثالث فإن نهوض روسيا المأمول والمرتقب واستعادتها لوزنها الدولى المرموق الذى يلعب دورا شديد الأهمية فى حماية كثير من الشعوب التى تعانى من ويلات عالم تتحكم فيه قوة واحدة دون رقيب .. هذا النهوض وتلك الاستعادة يعرقلهما بشدة ما يحدث فى الواقع الروسى وما يروج عنه من جرائم وعلى وجه التحديد حالات الاختفاء القسرى أو يلوث ثوبها الأبيض.
- لذلك فقد أثارت جريمة اغتيال وسيم صلاح الدين محمد إبراهيم حسين - نجل الأستاذة شاهندة مقلد - فى مدينة موسكو فى الأسبوع الثالث من شهر يونيو 2008 كثيرا من المواجع .. سواء فيما آلت إليه أوضاع مدينة موسكو وسكانها أو بما انتهت به حياة رجل يفيض – فى كل اللحظات – بالإنسانية والدفء .. والعذوبة .. والمروءة .. وعزة النفس، ولأننا كنا قريبين منه فى السنوات
القليلة الأخيرة - حيث زاد من معدل تردده على مصر وإقامته فى إجازات طويلة بها- وبسبب
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* نشرة المنتدى - موسكو - العدد الثانى .. مايو 2009 صــ 5 .
متابعتنا لتفاصيل اختفائه .. ومحاولات العثور عليه.. وترتيب عملية استعادة جثمانه ودفنه إلى جوار أبيه- المناضل العظيم صلاح حسين - فى قرية كمشيش بمحافظة المنوفية.. فقد أثار حفيظتنا – أكثر مما أثار دهشتنا- جملة الملابسات التى اكتنفت عملية التحقيق فى مصرعه بشقيه القانونى والتشريحى .. والذى تولته النيابة العامة وإدارة الطب الشرعى بموسكو.. بالذات عندما
تم الإعلان عن العثور على جثته فى شهرنوفمبر 2008 بعد تدخل مباشر من السيد رئيس الوزراء الروسى، وبعدما تبينا أن العثورعلى جثته كان فى يوم 23 يونيو 2008 أى بعد انقطاع الاتصال به بثلاثة أيام وقبل الإبلاغ عن اختفائه بيوم واحد .. وبرغم عمليات البحث عنه من جانب شقيقه ووالدته اللذين جابا أنحاء مدينة موسكو عدة مرات طوال عدة أشهر لم يتركا فيها مركزا من مراكز الشرطة أو مكتبا للمفقودين أو مستشفى إلا وأبلغا عن اختفائه، خصوصا وأن العثور على جثته أعقبه تصوير وجهه وإجراء تحليل الـ D.N.A وأخذ بصماته .. وغيرها من الإجراءات العلمية المتقدمة والتى تترافق دائما مع التحقيق فى مثل هذه الجرائم.
وحتى لو اقتنعنا بما تداولته المناقشات البرلمانية بشأن عمليات اختفاء الأشخاص وتفسيرها ذلك بتسيب الشرطة وتبرير ذلك التسيب بتصاعد النزعة القومية المتعصبة تجاه الوافدين الأجانب أو ضد من هم من أصول غير روسية .. فإن جملة الملابسات التى واكبت عمليات التحقيق تدفعنا دفعا للتراجع عما اقتنعنا به منذ قليل:
- خصوصا وأن مديرة البناية التى كان يسكنها الفقيد ويشغل شقتين فيها – فى طابقين مختلفين - مع زوجته وأبنائه .. قد أبلغت عن حريق فى إحدى الشقتين وحضر رجال الإطفاء ثم رجال النجدة السريعة لكسر باب الشقة بالقوة مما أجبر زوجته على الخروج إليهم بعد ذلك من داخل الشقة وادعاءها أن الدخان كان بسبب غفلتها عن متابعة إعداد كعكة فى فرن البوتاجاز.. ورفضت إدخالهم إلى الشقة بعد أن تجاهلت نداءاتهم لفترة طويلة رغم ما أحدثوه من جلبة أقلقت كل سكان البناية.
- يضاف إلى كل هذا ما أظهرته معاينة الشقة وحمامها واكتشاف قطع من الشاش مشربة بسائل بنى اللون.. وآثار لسائل أقرب للون الدم أسفل البانيو .
- ومنها ما هو أكثر غرابة من ذلك كاختفاء بعض ما عثرت عليه الشرطة فى الأكياس البلاستيكية التى ضمت أجزاء جثته وتضمنها محضر الحصر الذى سجلته الشرطة.
- فضلا عن عدم تحليل الطب الشرعى للشعر الذى وُجد ببعض أجزاء الجثة وبدا مختلفا عن شعر المجنى عليه.
- والأهم من كل ذلك كيف ترى الشرطة ألا شبهة جنائية فى الأمر بينما الجثة تم العثورعليها مقطعة لأجزاء فى سبعة أكياس بلاستيكية متناثرة وعائمة أو غائصة فى نهر موسكو يومى 23 ، 26 يونيو 2008 ومعها مزيل ماكياج وأوراق جرائد باللغة العربية وفردة جورب ومكنسة يدوية، ورقائق الومينيوم ( فويل) يمكن أن تحمل بصمات من وضعها، وآثار ضربات بأداة صلبة غير حادة على رأسه فضلا عن آثار حروق متعددة واضحة فى أجزاء مختلفة منها ؟! إلا إذا كانت الشرطة تقصد جثة أخرى وشخصا آخر..!!
- ولمَ لمْ تُعرض الصور التى تم التقاطها للوجه على شقيقه وأمه فى أية مرة من مرات ترددهما على مراكز الشرطة المتعددة بالمدينة وعلى مكتب المفقودين خلال الأسابيع الأولى لعملية البحث عنه؟!
- ولمَ لمْ تتم مطالبتهما بتحليل الـ D.N.A لأحد أبنائه لمقارنته بما لديهم للتعرف على الجثة فى نفس الفترة؟! .
ومما يدعم تراجعنا هذا تجاهل عدد من الملابسات الخطيرة مثل:
v ما ذكرته مديرة البناية التى كان يقطنها الفقيد عن إبلاغها عن الحريق الذى اندلع بشقة المجنى عليه وتطاير دخانه خارجها حتى وصل إلى الشقق المجاورة.
v وجود سيارة المجنى عليه قابعة بجوار مسكنه منذ ساعة اختفائه وتاكيد بعض حراس البناية على ذلك.
v قيام زوجته بإغلاق شقتهم الموجودة فى الدورالسابع على أطفالهما بالمفتاح .. وصعودها بمفردها إلى الشقة الأخرى فى البناية.
v قيامها بمغادرة البناية بعد أيام معدودة من الجريمة وحجزها لسيارة نقل- تتكلف مبلغا باهظا- لنقلها مع أطفالها إلى منزل أهلها فى إيكترينبورج بسيبيريا يوم 27 يونيو 2008
v عدم قيامها بالإبلاغ عن اختفائه خلال الثلاثة أيام الأولى – باعتبارها زوجته- وعدم بقائها فى موسكو للبحث عنه أو حتى الانتظار لمعرفة مصيره..إلخ
v وقبل كل هذا وبعده عدم استدعاء زوجته للتحقيق معها سواء فى مركز الشرطة أو فى النيابة العامة رغم جملة الشواهد والملابسات التى لا تستبعدها من دائرة الاشتباه، خصوصا وأنها لم تحاول الإبلاغ عن اختفائة لمدة ثلاثة أيام كاملة .. فهل يمكن تفسير ذلك تفسيرا منطقيا ..؟ أم أن العودة إلى كون الزوجة روسية الجنسية بينما الفقيد مصرى الأصل – رغم أنه مواطن روسى- يمكن أن يكون التفسير الأقرب للمنطق ؟!
v باختصار لا يمكن إزاء كل ذلك إلا أن نتأكد من وجود تواطؤ ما .. وليس مهما أن يكون ذلك التواطؤ من شرطة موسكو.. التى ربما تكون قد وجهت الإجراءات التى اتخذتها فى طريق يغل يد النيابة عن القيام بتحقيق دقيق فى الجريمة أو يحجب عن إدارة الطب الشرعى مواد وأدلة .. لو توافرت.. لمكنتها من كشف أسرار " لغز" الجريمة ، أو أن يكون التواطؤ قد تم من جانب رجال النيابة أورجال الطب الشرعى القائمين بعملية التشريح والتحليل البيولوجى والكيماوى ..أو من كليهما .
فكل ما يتجلى أمامنا بوضوح هو أن اكتشاف الجثة قد تم فى أعقاب الاغتيال بينما شقيق المجنى عليه وأمه يترددان على مراكز شرطة موسكو ومستشفياتها ومشارحها وعلى مكتب المفقودين بها ولم يتم إبلاغهما بوجود الجثة أو عرض الصورة الفوتوغرافية لوجه الفقيد عليهما أو مطالبتهما بتحليل الـ D.N.A لأحد أبنائه ، وأن الإعلان عن العثور عليها تم بعد ما يزيد عن أربعة أشهر من وقوع الجريمة وفور تدخل السيد رئيس الوزراء الروسى، وأن هناك تجاوزات غير مفهومة وتثير الريبة فى الإجراءات الجنائية التى تمت ( البحث، التحقيق، التشريح ، التحليل ) وآخرها وأخطرها تكييف القضية..
وكل ذلك لا يصب إلا فى اتجاه واحد وحيد هو إطالة أمد التحقيقات .. ومطها وتغيير المحققين بهدف إهدار الأدلة وتبديدها لأن عامل الوقت هو مقتل الأدلة ، لا لسبب إلا أن هناك تواطؤ واضح .. يتجاوز كثيرا مسألة إهمال الشرطة أو تسيبها ويبتعد أكثر عما قيل عن تفاقم النزعات القومية الضيقة فى المجتمع الروسى.
ولا يبقى أمامنا سوى انتظار ما تسفر عنه جهود فلاديمير ستيبانوفيتش دانش محامى شقيق المجنى عليه - الذى تم توكيله لتولى القضية مؤخراً - وتقدم بمذكرة إلى كل من :
- نائب المدعى العام
- رئيس لجنة التحقيق بمكتب المدعى العام.
- مستشار وزارة العدل.
تستهدف تدخلهم شخصيا لمتابعة التحقيقات فى الجريمة، وذلك بعد أن فشل فى الحصول على صورة من محضر الشرطة الخاص بتفاصيل معاينة شقة المجنى عليه .
وعلى ضوء ما تسفر عنه جهود المحامى الروسى سنحدد موقفنا النهائى من جريمة امتد التحقيق فيها خمسة عشر شهرا ولم ينته حتى الآن رغم الإبلاغ عن الاختفاء بعد أربعة أيام من حدوثه ورغم العثور على الجثة قبل الإبلاغ.
فإما العثور على المتهمين وتقديمهم للمحاكمة .. وإما أن نحتج ضد " موسكو ".. التى لم نعد نعرفها.
أصدقاء الفقيد وسيم صلاح حسين
عنهم : بشير صقر
email :sakrbash@yahoo.com
0 التعليقات